سامح لتعيش

للتسامح أهمية كبيرة في جميع الأديان ولاسيما الإسلام، فقد مدح الله سبحانه الذي يتسم بالعفو، فقال جلّ وعلا: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ آل عمران:134. وقد ربط سبحانه العفو والمسامحة بمغفرته في قوله تعالى:  ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النور: 22. ولكثرة ما قيل عن العفو والمسامحة لن نفصل الحديث عن الجانب الديني للموضوع.

والمتسامح يستطيع أن ينعم بالسلام الداخلي، لا يعكر صفاء نفسه ومشاعره أي شيء. وحسب الدراسات النفسية الاجتماعية فإن العفو والمسامحة لها تأثير إيجابي على الاستقرار النفسي وراحة البال. لأنها تحررنا من المشاعر السلبية كالغضب والكره والاستياء، فبقاء تلك المشاعر في داخلنا يؤثر في حالتنا النفسية ويمنعنا من التوازن العاطفي، وفضلا عن أن الشخص المقابل لا يتأثر أبدا بتلك المشاعر. وجميل ما قاله نلسون مانديلا في هذا الصدد: “إن الذي يحمل الكره والضغينة في داخله، كأنه يشرب السم ويتمنى أن يموت عدوه”.

هناك مواقف تنتهي ويمر عليها الوقت، بينما تظل تأثيراتها في داخلنا. لأن المشاعر التي صاحبت الموقف قد تبقى في نفوسنا مدة من الزمن، قد يتجاوز بعضها السنوات. والمشاعر السلبية التي نحبسها في داخلنا تؤثر سلبا في حياتنا الشخصية، وعدم تجاوزها يعيقنا عن تحقيق كثير مما نرغب فيه، ويشتت ذهننا، ويستهلك طاقتنا. فالذي حدث في الماضي نتركه هناك مادمنا لا نستطيع فعل شيء تجاهه.

ومن القصص الطريفة في الاحتفاظ بالمشاعر السلبية قصة راهبين، أحدهما أقدم في الرهبانية من الآخر. فبينما كان الراهبان يمران بغابة توقفا عند نهر ليعبراه، وسمعا حينها امرأة تطلب المساعدة لعبور النهر، فنظر الراهبان إلى بعضهما متحيرين، لأنهما كانا قد تعهدا بعدم لمس أي امرأة على الإطلاق، وبعد وهلة حمل الراهب الأقدم المرأة وعبر بها النهر، وانصدم الراهب الجديد بالموقف وظل صامتا لمدة خمس ساعات يفكر فيما حدث ولا يستطيع تقبّله. وأخيرا لم يتحمل  الراهب الجديد أكثر فقال:”أليس محرما علينا لمس النساء بوصفنا راهبين، كيف حملت تلك المرأة على أكتافك؟” فنظر الراهب الأقدم إليه وأجاب مندهشا: “أخي، أنا وضعت المرأة على الجانب الآخر من النهر منذ خمس ساعات، لماذا أنت لازلت تحملها؟!”

خطوات المسامحة الحقيقية:

إن المسامحة ليست كلمة تقال ليعود كل شيء كما كان، أو لنمسح بصورة كاملة جميع المشاعر التي صاحبت الموقف المؤلم. وقد تكبر مشاعر الغضب والاستياء مع مرور الزمن فيصبح من الصعب تجاهلها. وهناك خطوات يمكننا أن نتبعها إذا أردنا تجاوز المشاعر المؤلمة التي سببها لنا الآخرون، ومنها:

  • واجه عواطفك وكن صادقا مع نفسك. عند الشعور بشيء من الغبن من المقابل، علينا أن نتحاور مع أنفسنا لنتأكد من الشعور أولا، قبل أخذ أية خطوة أخرى. فقد نكون متضايقين من شيء معين قبل الموقف، وما فعله الشخص المقابل لم يكن بذلك السوء كي نغضب منه.
  • قرر أن تسامح. بعد أن تأكدنا من شعور الغضب والاستياء من الشخص المقابل، لابد أن نكون مستعدين للعفو عن المقابل، ولو وجدنا أننا لازلنا لا نستطيع أن نأخذ هذه الخطوة، فلننتظر قليلا حتى تهدأ نفوسنا، فقد نكون بحاجة إلى بعض الوقت، لأن الزمن يتكفل في بعض الأحيان بالنسيان والتجاوز.
  • ضع نفسك مكان المخطئ. مما يخفف عنا كثيرا من مشاعر الغضب وضع أنفسنا في مكان الشخص المخطئ، مما يجعلنا نتفهم موقفه وقد نتعاطف معه أيضا، فقد يعاني ذلك الشخص من شيء ما، ويمر بفترة صعبة من حياته. وقد نجد له الكثير من الأعذار، خاصة إذا لم يكن من عادته أن يتكلم أو يتصرف بالصورة التي فعلها. ومن الجميل قول ابن سيرين ” إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعل له عذرًا”.
  • تذكر أفضال المخطئ عليك. إن أغلب الذين يؤثر أخطاؤهم في مشاعرنا، هم الأشخاص المقربون لنا، والذين نحمل لهم كل الود ونتمنى لهم كل الخير. لذا من المفيد أن نركز على إيجابيات هذا الشخص وأفضاله علينا في السابق، وذلك يهدئ من غضبنا تجاهه. ولن تكون هذه الخطوة سهلة فقد يحتاج أيضا إلى أن يسكن غضبنا أولا، لأنه كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:

                    عين الرضا عن كل عيب كليلة

                                ولكن عين السُّخط تُبدي المساويا

  • توقف عن إلقاء اللوم على نفسك. من الغريب أن نبدأ بإلقاء اللوم على أنفسنا في المواقف التي شعرنا فيها بالظلم من المقابل، ونلوم أنفسنا في كثير من الأحيان بسبب ردة فعلنا الذي قد لا يكون بمستوى الموقف، أو في عدم مواجهة المقابل أو لأي سبب كان، لأن إلقاء اللوم على أنفسنا في مثل هذه الحالات تؤذينا أكثر، وتعمّق الجرح في داخلنا، وتؤجج مشاعر الغضب والاستياء فينا.
  • صارح المخطئ بمشاعرك. من الجيد أن نصارح المخطئ بمشاعرنا، خاصة إذا كان شخصا مقربا منا، ويمكننا أن نصارحه بما شعرنا به جرّاء تصرفه، وكيف أثر الموقف فينا، لأنه قد لا يكون على علم بما شعرنا به، أو أنه لم ينتبه أنه جرحنا بكلامه أو تصرفه. وفي أغلب الأحيان تختفي المشاعر السلبية وتحل محلها مشاعر الراحة والطمأنينة، بمجرد أن تُحدّثَ المخطئ بتلك المشاعر.
  • ركّز على الدرس الذي تعلمته من الموقف. الحياة مدرسة كبيرة، وكل موقف من مواقفها سواء المحزنة أو المفرحة درس علينا استيعابه. فلنحاول أن نجمع تركيزنا على ما يمكننا أن نتعلمه من الموقف برمته. فكما يقال “إن ركزت على الجرح ستظل متألما، بينما لو ركزت على الدرس فتظل متعلما”.

وأخيرا فالعفو عن المخطئ اختيار وليس إجبار وكما يقول غاندي فهو (سمة الأقوياء). ولكن إن لم نستطع تجاوز شعورنا بالغضب، فلا نمثّل الصفح ولا نضغط على نفسنا كي نسامح المخطئ، لأن الشعور بصفاء القلب تجاه شخص بعينه، يجب أن يأتي بصورة طبيعية وغير متكلفة، وإظهار التسامح بينما لا تزال هناك مشاعر سلبية عالقة في قلبنا، يكون أثره السلبي أكبر من عدم المسامحة ذاته.

Advertisement

4 Comments Add yours

  1. ياسين عزيز says:

    مقال رائع وجميل وقد يبدو في زمننا هذه الخاصية مفقودة مع انتشار ظاهرة العجب وتسلط الشيطان على القلوب التي هي معقل هذه الاحاسيس لكني كمسلم لم يعجبني مثال الراهبين البوذيين لانه قد يوحي لبعض السذج ان معتقدا واهيا مثل البوذية قد يمثل نموذجا جميلا وايجابيا ، اعذريني دكتورة فانا في معتقدي متشدد كما يقال وليس هذا عن فراغ وانما تاسية برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقديس معتقدي وارجو ان اكون كذلك لكن في العموم المقال بما فيه من نية طيبة وتشخيص حالة وطرح علاجها متميز وجميل لك كل التقدير

    Liked by 1 person

    1. أشكر لكم قراءتكم المتأنية وكلماتكم الطيبة، وسآخذ ملاحظتكم بنظر الاعتبار. مع التقدير

      Liked by 1 person

  2. هيونة says:

    مقالاتك رووووووعة دكتورة

    Liked by 1 person

    1. مرورك الأروع عزيزتي..

      Like

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s