عندما نتعرف على شخص ما، نكون على أعتاب معرفة إنسان مستقل بشخصيته وأفكاره وخصوصياته وتجاربه. ونحتاج إلى وقت كافٍ لمعرفته قبل أن نشعر بالثقة والأمان لذلك الشخص. ثم نحاول أن نقضي وقتا أطول معه والتحدث إليه في موضوعات أعمق، ومشاركته أفكارنا وخصوصياتنا. ويتغيير أسلوب تعاملنا معه كثيرا مقارنة ببداية تعرّفنا إليه. وبذلك نكون قد قلصنا المسافة فيما بيننا.
ونقصد بالمسافة في العلاقات الإنسانية هنا، إحساس الشخص بالقرب الشعوري. والمسافة التي نضعها بيننا وبين الآخرين لا يمكن قياسها بالمتر أو السنتمتر، فهي مسافة شعورية نضعها نحن أو يضعها المقابل ليتحدد بها طبيعة العلاقة وقوتها. ولا نقصد بها المسافة المادية المحسوسة. فقد تكون قريبا من بعض الأشخاص القرب المادي المحسوس، ولكن تتسع المسافة المعنوية فيما بينكما. وبالرغم من ذلك، فإننا يمكننا أن نتكهن بطبيعة العلاقة التي تربط شخصين واقفين في مكان واحد، بحجم المساحة التي تفصلهما، سواء كانت تربطهما علاقة صداقة أو حب أو أنهما غريبان عن بعضهما.
يختلف حجم المسافات بين الناس حسب طبيعة العلاقة بينهما، ففي العلاقات الودية ومع الأشخاص المقربين جدا إلى روحنا وقلبنا وعقلنا، نختصرها إلى أضيق حد، لتتسع بعدها شيئا فشيئا وتصل إلى أقصى درجة من الاتساع في العلاقات الرسمية. أما في العلاقات الأسرية والقرابة، فتختلف باختلاف مدى انسجامنا وتلاؤمنا مع أفراد الأسرة والمقربين منّا.
وعندما نتحدث عن المسافة لابد أن نشير إلى أن وضع المسافات المناسبة، يؤدي إلى التوازن المطلوب في التعامل مع الآخرين. وهو مطلب أساسي لنجاح العلاقات الشخصية واستقرارها، لأن المحافظة على مسافة محددة مع كل شخص حسب العلاقة التي تربطكما، تجعلك متزنا في علاقتك وتعاملك مع المقابل مما يبعدك عن المد والجزر التي تضعف العلاقات الشخصية وقد تقضي عليها أحيانا. لذا قيل “لا تقترب حد الاحتراق، ولا تبتعد حد الافتراق”.
ومن الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها بعض الناس (إلغاء المسافات) فيما بينهم، فوجود المسافات تنظم العلاقات الإنسانية، كي تعطي رونقا وجمالا لهذه العلاقات. فلابد من المحافظة عليها حتى بين الزوجين، مما تبعد الحياة الزوجية عن الرتابة والملل والفتور، فضلا عن أن إلغاءها يؤدي إلى نوع من الشعور بالاختناق. فالمحافظة عليها فنٌ، وتحتاج إلى ذكاء كما تقول أحلام مستغانمي في روايتها (الأسود يليق بكِ): “الحبُّ هو ذكاء المسافة. ألّا تقترب كثيرا فتُلغي اللهفة، ولا تبتعد طويلا فتُنسى. ألّا تضع حطبَكَ دفعة واحدة في موقد من تُحب؛ أنْ تُبقيه مشتعلا بتحريكك الحطب، ليس أكثر، دون أنْ يلمح الآخرُ يدك المحرّكة لمشاعره ومسار قدره. لا حبَّ يتغذَّى من الحرمان وحده، بل بتناوُب الوصل والبعاد، كما في التنفُّس. إنها حركة شهيق وزفير، يحتاج إليهما الحبُّ لتفرغ وتمتلئ مجددا رئتاه، كلَوحٍ رُخاميّ يحملُه عمودان، إنْ قربْتَهُما كثيرا اختلَّ التوازن، وإنْ باعدْتَهما كثيرا هوى اللوح. إنه فنُّ المسافة”.
وهناك علاقة مباشرة بين وضع المسافات والحفاظ على الخصوصية. فكلما وضعنا مسافة واسعة، كان دليلا على أننا نريد المحافظة على خصوصيتنا وعدم مشاركتها مع الآخر. وإذا ما بدأنا بتقليصها، فإننا بذلك نشارك المقابل حياتنا الشخصية وخصوصيتنا. لذا قبل أن نتقرب من الآخر، لابد أن نسأل أنفسنا عن مدى استعدادنا لمشاركة خصوصياتنا معه.
وقد تمثل العلاقات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي مشكلة بحد ذاتها في كيفية تحديد المسافة، فقد تقترب كثيرا من شخص بعينه، أو أن المقابل يقترب منك أكثر مما ينبغي، ولا سبيل إلى الشعور بالراحة من تقليص المسافة، لأنه تواصل افتراضي، من الصعب أن تتعرف على المقابل بسهولة، وتبني ثقتك به. فمهما حاولت التقرب منه وفهمه، تظل الشاشة حاجزا أمام الثقة به.
كيف نحدد المسافات؟
من الضروري تحديد المسافة المناسبة مع المحيطين بنا، وهناك خطوات لتحديدها لتكوين علاقات شخصية ناجحة، ومنها:
- حاول وضع مسافة واسعة بينك وبين الشخص الذي تتعرف عليه لأول وهلة، لأنك في المرحلة الأولى من تكوين العلاقات، تقوم باكتشاف الآخر، وفي هذه المرحلة لا تعرف المقابل جيدا وكذلك الشخص المقابل لا يعرفك، فتكونان معرضان بسهولة لسوء الفهم، لذا كلما كانت المسافة واسعة فيما بينكما، كلما بنيت علاقتك على أسس متينة بعيدة عن خيبات الأمل.
- تدرّج في تقليص المسافة واخطو خطوات صغيرة عندما تتأكد من موطئ قدمك. ولا تتسرع في التقدم بمجرد أن تشعر بشيء من الارتياح النفسي مع المقابل. واعط فرصة له ليستوعبك، ولا تفرض نفسك عليه، وتبدأ باختراق المسافات، فطباع الناس تختلف، فقد يحتاج بعض الناس إلى وقت أطول ليشعروا بالراحة والأمان مع المقابل وينفتحوا عليه.
- تجنب المزح الكثير وتعامل بشيء من الرسمية حتى في العلاقات الودية، وانقطع عن المزاح نهائيا مع الذين معرفتك بهم سطحية. لأنه بالمزح تقطع كمية كبيرة من المسافة. وقد يؤدي ذلك إلى أن تفسد العلاقة التي تربطك بالمقابل، لأنه ربما يراه سخرية به وتقليلا من قيمته.
- تراجع قليلا إذا ما تقدم المقابل منك أكثر مما ينبغي، لتحافظ على حجم المسافة التي تشعرك بالارتياح. فلا يمكن أن تتقدم من الآخر لتجبر الخواطر فقط، بينما في داخلك لا تشعر بالراحة والرضا لهذا التقرب. لأن المسافة كلما تقلصت مع المقابل، كان عليك تخصيص وقت أكثر لذلك الشخص، للاستماع إليه والانفتاح له، وتحمل مسؤولية العلاقة بصورة أكبر.
- خذ وقفة قصيرة لتراجع طبيعة العلاقة، وارتياحك النفسي منها، عندما يطلب قلبك منك تقليص المسافة، ويحذرك عقلك من مغبة ذلك. لا تتسرع في ذلك، بل اقترب بكل هدوء، لأن العقل إذا لم يقتنع بهذا التقليص، فمعناه أن العلاقة لم تنضج بعد، وتحتاج إلى وقت أكثر، لتصبح خطواتك ملائمة مع طبيعة العلاقة. فعندما تتقرب بسرعة يمتلؤك الشوق والحماس، ولكن عندما تبدأ بالابتعاد، فكل خطوة في طريق العودة تحمل معها ألما وإحباطا. لهذا معظم العلاقات العاطفية بين الشباب تحمل كثيرا من الألم وخيبة الأمل، لأنه يتم فيها إلغاء العقل وتحكيم المشاعر.
- اعطِ مساحة كافية لكل من يربطك به علاقة شخصية، فإذا ارتحت لشخص ما ووثقت به، لا تحاول قضاء معظم الوقت معه أو أن تكون ملاصقا له، لأن ذلك يجعل المقابل لا يشعر بالراحة ويتضايق منك، وسيشعر أنك كتمت على أنفاسه وحبست عنه الهواء، ولو لم يُظهر لك ذلك. ولن يكون التواصل مفعما باللهفة والشوق، بل مليئا بالملل والضجر. فجميعنا يحتاج لقضاء الوقت على انفراد أو مع أشخاص آخرين. ونرى هذا جليا عندما يتقاعد الزوج ويصبح موجودا في المنزل ومجاورا للزوجة طوال الوقت. خاصة إذا كان صاحب شخصية انطوائية، ولا يملك أصدقاء مقربين يقضي معهم بعض الوقت.
لذا إذا أردت أن تمتلك علاقة ناجحة ومتوازنة وبعيدة المدى، حافظ على المسافة الموجودة فيما بينك وبين المقابل، ولا تقم بإلغائها مهما كان الشخص قريبا. ويعجبني في هذا الصدد مبدأ معاوية بن أبي سفيان، والذي يُعرف بـ (شَعرة معاوية) فقد كان معاوية يقول: (لو أنّ بيني وبين الناس شَعرة ما انقطعتْ، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها).